في مدينة الهندية، التي تتنفس من أعماق نهر الفرات، وتتلألأ على ضفافها الحكايات، ولد الدكتور علاء الكتبي عام 1952، لأسرة موغلة في المجد والتقوى، تتفيأ ظلال الكلمة وتؤمن بأن الحرف سلاحٌ لا يقل شأنًا عن البندقية. كان القدر قد اختار له أن يُولد في مدينةٍ لا تُفرّق بين العَلم والدم، فنهض وفي قلبه قلقُ المبدعين، وفي روحه عنادُ المؤمنين بالحق، وفي مسيرته أثر الجراح التي نحتت شخصيته، تمامًا كما تنحتُ التجارب الصعبة تماثيلها من صخر الألم.
أكمل الكتبي دراسته الأولية في مدينته، ثم انطلق إلى النجف الأشرف، مهوى القلوب ومأوى الحرف المقدس، لينال شهادة البكالوريوس في علوم اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه عام 1976. وهناك، بين جدران الحوزة وظلال المنابر، تشكلت ملامح مشروعه المعرفي، وبدأت رحلته الطويلة بين السجون والمكتبات، بين الحبر والحديد.
فلم يكن طريق الكتبي معبّدًا، بل مفخخًا بالملاحقة والقهر؛ اعتقل مرات عديدة، وذاق مرارة السجن في دهاليز الأمن العامة، والاستخبارات العسكرية، والشعبة الخامسة، وأمن كربلاء والنجف والهندية. وقد نُكّلت به السلطة البعثية كما نكّلت بأخيه الشهيد إحسان الكتبي، الذي أُعدم عام 1982، ليظل ذكراه طيفًا حيًّا في ذاكرة علاء، يرافقه في كل سطر يكتبه، وفي كل جامع يُشيّده، وفي كل مجلس يقيمه.
وحين انفجرت انتفاضة آذار عام 1991، كان الكتبي هناك، لا خلف الستار، بل في قلب الحكاية؛ داعمًا وسندًا، يوزع ماله وجهده ومحبته على الفارين من جحيم النظام، متنقلًا إلى شقلاوة ومناطق الجبال ليحمل الغذاء والكلمة والرسالة، كما كان يحمل تراب مدينته في جيبه وقلبه، ليظلّ دومًا ابنًا لفراتها، لاجئًا في ضميرها.
لكن الرجل لم يكن مجرّد مناضل، بل صاحب مشروع اجتماعي وثقافي متكامل، فتسلّح بالعلم من جديد، وحصل على الماجستير في التاريخ الإسلامي عام 2008، ثم نال شهادة الدكتوراه عام 2012، ليجعل من المعرفة درعه، ومن التاريخ حليفه، ومن الحرف مرآته. وفي عام 2005، انتُخب عضوًا في مجلس محافظة كربلاء، فأدخل العمل الثقافي في صلب العمل السياسي والاجتماعي، وظل قريبًا من الناس، في الشارع، في المسجد، وفي المجلس، يؤمن أن السلطة أمانة لا ترف، ومسؤولية لا مغنم.
دأب الكتبي على بناء المساجد والحسينيات والمكتبات، وأسّس مؤسسة الكتبي الخيرية، ومسجد ومكتبة الكتبي العامة عام 1995، وحسينية إحسان الكتبي عام 2005 تخليدًا لذكرى شقيقه. كان يؤمن أن العبادة لا تكتمل إلا بالمعرفة، وأن الكلمة لا تثمر إلا حين تسندها يدٌ تبني، وفكرٌ يضيء.
أصدر صحيفة أنوار كربلاء الأسبوعية، لتكون صوتًا للمهمّشين، ومنبرًا للأدباء، وذاكرةً متجددة لمدينةٍ لا تنام. كما أطلق مجلة طويريج، لتستوعب تراث المدينة وتخلّد شعرها ومآثرها. لم يكن الكتبي رجل مؤسسات فحسب، بل رجل كتاب؛ ألف، ودوّن، وجمع، وصنّف، فكان له باعٌ طويل في التأليف والنشر.
من مؤلفاته المطبوعة:
فارس الحلبات (2007).
أعلام وذكريات.
الفواكه والخضروات في الكتاب والحديث والتراث.
الإمام الحسين عليه السلام في الشعر الطويرجاوي.
سمية شهيد الإسلام الأولى.
المساجد الأربعة وأثرها في بناء المجتمع العربي الإسلامي حتى عام 132هـ (تقديم السيد علي الشهرستاني).
المال بين الدينار والدرهم.
الصحف البيضاء.
مجارش الشلب في طويريج ورائعة الكرخي.
ومن مخطوطاته:
ضيوف طويريج.
المراجع الشعراء.
الشعراء الوزراء.
الشعراء القضاة.
صفوة الأبرار من أعلام طويريج الأخيار (في مجلدين).
كتابات عبر الزمن (في مجلدين).
لقد كتب عنه عدد من النقاد والمفكرين، وكان في مقدمتهم الدكتور أحمد نزر التميمي الذي أفرد له كتابًا بعنوان الدكتور علاء الكتبي وجهوده الفكرية والأدبية. كما ترجمت له أقلام بارزة من داخل العراق وخارجه. قال فيه الدكتور محمد سعيد الطريحي: "دار آل الكتبي العامرة، هي موئل الجود والكرم، والأخ علاء عنوان الفضائل". فيما كتب مؤرخ المسيب جواد عبد الكاظم محسن عنه قائلًا: "ديوان الحاج علاء هو ديوان رقيق كرقة صاحبه... وأنوار كربلاء تركت بصمتها الثقافية".
أما الشاعر السيد عدنان الموسوي، فقد قال: "لم أتخيل أن أصل إلى روضة أدبية بهذه الحفاوة، فديوان الكتبي ملتقى لكبار الأدباء من أماكن متفرقة"، في حين رأى الدكتور نضير الخزرجي أن "كرم طويريج قد تبلور في ديوان علاء الكتبي".
وقد امتدحه الأستاذ بشير ناجي بوصف ديوانه بـ"روضة من رياض الثقافة والأدب"، بينما قال الدكتور سامي الجميلي عنه: "هو خير خلف لخير سلف... قضاء الهندية صار مربدًا للكتبي".
وتوجّه الدكتور صباح نوري المرزوك بأجمل توصيف حين قال: "الكتبي ليس كتابًا واحدًا، بل مجموعة كتب... أزهار فواحة في بستانٍ اسمه طويريج، وجريدة أنوار كربلاء أصبحت مرجعًا مهمًا لا يمكن تجاوزه".
كل من كتب عنه، أو مرّ بديوانه، شعر أنه أمام رجلٍ لا يُشبه غيره؛ متواضعٌ، كريمُ الروح، جادٌّ في ما يكتب، وخلوقٌ فيما يبث. عشق الأدب حتى ذاب فيه، وتحوّل ديوانه إلى معبرٍ نحو مدن الحكمة والكرامة والوعي. وما بين ماضيه النضالي، وحاضره المعرفي، لا يزال الدكتور علاء الكتبي يسير بخطى ثابتة، يُنيرُ الدرب، ويربّي الكلمة، ويزرع الوعي في أرضٍ أنهكها الخراب.
إنه باختصار، ابن الفرات، وشاهدُ الطين والنار، وواحد من أولئك الذين يعيدون بناء المعنى حين ينكسر، ويصونون الذاكرة حين تُباع في المزاد.